وهم التصريحات المعلّبة وواقع الخراب!!

أبو بكر الطيب
في مشهدٍ عبثيٍّ يتكرر يوميًّا، يُحاول البعض تسويق الوهم على أنه إنجاز، وتقديم الفشل على أنه بطولة. تُنشر تصريحاتٌ ورديةٌ مكرّرة، تُبشّر بمستقبلٍ مشرقٍ للرياضة السودانية، بينما الواقع من حولنا ينمّ عن انهيارٍ تامٍّ لكلّ المرافق الرياضية في الخرطوم. ولكن، وبلا خجل، يطلّ علينا من يُحدثنا عن تعهده بصيانة تلك الاستادات وإعادة تأهيلها لتعود للخدمة، بعد تعاقده مع شركة “المقاولون العرب” لصيانتها. فصفّق بعض الحالمين، مصدّقين ومهلّلين ومكبّرين. فكيف لا؟ ونحن جماهير تُصفّق للأمل، بينما تسير على أنقاض الخيبة.
هل نعيش حقًّا نهضةً رياضية؟ أم أننا ضحيةٌ لأكبر حملة تزييفٍ للوعي الرياضي في تاريخنا الحديث؟
بين التوقيع والتقييم… منطق مقلوب
ليس من المقبول – بأيّ مقياسٍ إداري أو أخلاقي – أن تُوقَّع عقود صيانة لمنشآتٍ رياضيةٍ عملاقة مثل استاد الخرطوم، ودار الرياضة أم درمان، واستاد التحرير، قبل تقييم الأضرار، وحصر الاحتياجات، وتقدير التكلفة الفعلية.
فهل تُبنى الاستادات بالعواطف والادّعاء والإعلام؟ وهل تُدار الملاعب بالنيّات الحسنة؟
هذا السلوك يبعث على الأسى، ويفتح باب التساؤلات المؤلمة:
هل هو جهلٌ فاضحٌ بالإجراءات؟
أم استخفافٌ صريحٌ بعقول الناس؟
أم أن وراء الأكمة ما وراءها من مصالح خفية وصفقاتٍ مضلّلة؟
إنه باختصار: منطق “التوقيع على العقود من أجل التصوير والإعلام فقط”، لا من أجل التطوير. عقلية “السباق الإعلامي” لا “السباق المهني والأخلاقي”.
هل من ادّعى هو المُتكفّل… أم المتكلّف؟
ثم نأتي إلى من يُعلن تكفّله بصيانة هذه الاستادات الثلاثة، دون معرفةٍ دقيقةٍ بحجم العمل، ولا تقديرٍ موضوعي للكلفة. قد يُخيّل للناس أننا أمام رجل أعمالٍ بقدراتٍ خارقة، لكن الحقيقة أن ما يحدث لا يعدو كونه “بوبارًا أجوف”، وسعيًا محمومًا وراء الأضواء، دون خطة أو مقدرة أو التزام موثّق.
إنه تمامًا كمن يُريد بناء قصر، وهو لا يملك حتى ثمن الأساس.
والأسوأ أن بعض وسائل الإعلام تُروّج لهذه الادّعاءات بحسن نية، أو ربما لأغراض أخرى، دون تحقيقٍ أو تدقيق، وكأنها تبارك تحويل الرياضة إلى مسرحٍ مفتوحٍ للشهرة الزائفة.
وهنا، يُصبح الإعلام نفسه جزءًا من معضلةٍ أكبر: التضليل بدل التنوير، والتطبيل بدل التقويم.
موقف الدولة… بادرة تستحق الإشادة
في المقابل، تظهر بارقةُ أملٍ مع تحرك الوزيرة الاتحادية، التي قررت تشكيل لجنةٍ فنيةٍ لتقييم الأضرار قبل الشروع في أي أعمال صيانة.
خطوةٌ تحمل شيئًا من المنطق، وتنمّ عن رغبةٍ في انتهاج أسلوبٍ علميٍّ ومنظم. إنها خطوةٌ متأخرةٌ ربما، لكنها على الأقل تُمهّد لطريقٍ أكثر مسؤولية.
إن تقييم الأضرار أولًا، ووضع خطةٍ شفافةٍ ومعلنة، ثم الإعلان عن المموّل الحقيقي وآلية التنفيذ، هي عناصر لا غنى عنها إن كنا نريد فعلًا إنقاذ ما تبقّى من كرامةٍ للمنشآت الرياضية.
في زمن الغفلة
نقول للجماهير العاشقة:
إلى متى ستظلون أسرى للأوهام والتصريحات المعسولة؟
إلى متى ستسمحون لمن يتاجر بشغفكم بأن يعبث بمستقبلكم الرياضي؟
حبّكم لكرة القدم لا يجب أن يُستغل، بل يجب أن يُترجم إلى وعيٍ جماهيريٍّ فاعل، يُراقب ويُحاسب ويُطالب بالحقيقة.
لا تُصدّقوا كلّ ما يُقال، بل اسألوا: من سيفعل؟ ولماذا سيفعل؟ وكيف سيفعل؟
كونوا قوةً ضاغطةً تقف في وجه الزيف، وصوتًا صادقًا ينادي بالإصلاح.
همسة في أذن الإعلام الرياضي:
أين أنتم من المهنية؟ أين دوركم في كشف الحقائق؟
كفّوا عن الترويج لمشاريع ورقية وأوهام موسمية، وابحثوا عن الحقيقة ولو كانت موجعة.
فأنتم إما ضمير الرياضة… أو شركاء في دفنها.
لقد ضاق الناس ذرعًا بالمراوغات. لا مجال بعد اليوم للمجاملات.
أنتم أصحاب القرار، وعليكم تقع المسؤولية. وضّحوا للناس الحقائق، وبيّنوا ما يمكن عمله وما لا يمكن، وسمّوا الأمور بأسمائها.
لا تدعوا الملف يُختطف من قِبَل أصحاب الصوت العالي والنية الغامضة.
الرياضة أمانة… فصونوها.
وقبل الختام:
لنعُد بالرياضة إلى أهلها
الرياضة السودانية لا ينقصها الحب، ولكنها بحاجةٍ ماسّةٍ إلى إدارةٍ واعية، وإعلامٍ صادق، وجمهورٍ لا يُلدغ كلّ مرةٍ من ذات الجحر.
لقد سئمنا الوعود والعبث والمسرحيات، ونريد عملًا حقيقيًّا ينهض بالبنية التحتية ويُعيد للرياضة كرامتها.
الكرة الآن في ملعب الجميع… والفرصة ما تزال قائمة.
وأهلك العرب قالوا:
إذا نطقوا كذبوا، وإن صمتوا فبئس الصمت صمت الكاذبين
وسيعلم الجمع مما ضمّ مجلسُنا
بأنني خير من تسعى به قدمٌ وفضح المرجفينَا
والله المستعان.
