رياضتنا السودانية… ونوق السُّدى (3)

أبو بكر الطيب
الناشئون… الثروة المُهمَلة والعجلة التي لا تدور
في كل منظومة رياضية محترمة، تُعدُّ المراحل السنيّة قلب المشروع النابض، المصنع الطبيعي للمواهب، والتربة التي تنمو منها أعمدة المستقبل.
ولكن في رياضتنا السودانية، تبدو هذه المراحل كـ”عجلات زائدة” يُحتفى بها شكليًّا، ثم تُهمَل حتى تصدأ، أو تُستبدل بمواهب مستوردة بأموال طائلة.
تفريط في الكنز المحلي بحثًا عن الوهم المستورد
كيف يُعقَل أن تدفع أنديتنا ملايين الجنيهات والدولارات لجلب لاعبين أجانب – كثير منهم دون المستوى – في حين نملك في المدارس والأحياء والفرق السنيّة كنوزًا، لو أُحسن اكتشافها وتطويرها لصنعت الفارق؟
لكن بدلًا من الحفر في منجمنا المحلي، نُصر على التنقيب في الخارج… نشتري السراب، ونَدَع الماء الزلال يضيع بين الأصابع!
إنها إحدى صور النوق السُّدى:
لا أحد يرعى الناشئين، لا أحد يعتني بتغذيتهم الفنية، لا بنية تحتية، لا ملاعب مؤهَّلة، لا مدرّبين مختصين، لا مسابقات منتظمة.
مجرد أسماء تُذكر في اجتماعات الاتحادات، وتُدرَج في التقارير، دون أن يراها أحد في الميدان.
المراحل السنيّة… قيمة فنية واقتصادية مهدورة
من يملك قطاع ناشئين حقيقيًّا، يملك استقلاله الفني والمالي. بلغة المال، اللاعب الذي يُصنَع محليًّا بتكلفة محدودة يمكن أن يُسوَّق خارجيًّا بعشرات الأضعاف.
ومن جهة أخرى، سيُغني النادي عن الاستيراد، ويوفّر الانسجام الفني، ويُرسّخ الهوية الرياضية.
لكن هذا لن يحدث ما دام القرار بيد من لا يرى في المراحل السنيّة سوى بند في الميزانية، وليس أساسًا في الرؤية.
سوء التخطيط… والعجلة التي لم تُركب قط
في نادٍ من أنديتنا الكبيرة، قيل إن لديهم مشروعًا استثماريًّا في فرق البراعم والناشئين.
لكن المشروع لم يُنفَّذ، والملاعب لم تُؤهَّل، والمدرّبين لم يُعيَّنوا، بل وُضِعت لافتة على جدار يقول: “مشروع تطوير المراحل السنيّة”… ثم تُرِك الجدار حتى تآكل، تمامًا كالنوق التي أُطلِقت بلا وجهة.
العجلة لم تكن معطّلة فحسب، بل لم تُركب أصلًا!
من ضياع الطفل الموهوب إلى انتكاسة المنتخب
من يتحمّل مسؤولية الطفل الذي يمتلك موهبة طبيعية، لكنه لا يجد ملعبًا، ولا فرصة، ولا مدرّبًا يفهمه؟
من يتحمّل ذنبه حين يهجر الرياضة ليعمل في السوق أو ينضم لمشاريع الاغتراب القاسية؟
من يتحمّل ضياع المواهب التي كان يمكن أن تغيّر ملامح المنتخب وتُعيد له الهيبة؟
إن الإهمال في المراحل السنيّة هو الجريمة التي نرتكبها كل يوم ضد المستقبل.
فالنوق هنا ليست عجائز فقط، بل صغار تُترَك لتتيه قبل أن تشتدّ.
حان وقت الاستدراك… وإلا
إن ما يُنفَق على اللاعبين الأجانب – من دون جدوى – كان يمكن أن يبني عشر أكاديميات وطنية.
وما يُصرَف على الإعلام والاحتفالات كان يمكن أن يُغطّي تكاليف مسابقات للمراحل السنيّة لسنوات.
لكن متى كان للرياء عقلٌ اقتصادي؟ ومتى اهتمّ الطفيليون بالاستثمار في ما لا يظهر في الصورة؟
إننا نخسر مرّتَين:
مرّة حين نُهمِل موهبة محلية، ومرّة حين نشتري موهبة مزيفة بثمنٍ حقيقي.
وأهلك العرب قالوا:
“من فرّط في اللبن، لا يلوم إلا نفسه عند العطش.”
فهل نعقل الدرس قبل أن يصبح كل قطيعنا نوقًا سُدى؟
أم نستمر في الدوران حول السراب، وننحر الحلم بأيدينا، ثم نندب ضياعه؟
والله المستعان.
