دوري السكري..!
أبو بكر الطيب
حين تتحول المسابقة إلى عملية بتر تدريجي
(حكاية بطولة مريضة تودّع أطرافها كل صباح!)
في السودان، لا شيء يسير في خط مستقيم… حتى الدوري الممتاز، ذاك الذي سُمّي يومًا بـ”الممتاز” مجازًا، صار اليوم أقرب إلى جسد مريض بداء السكري، يعاني من الغرغرينا، وتُبتر أطرافه تباعًا… لا لإنقاذه، بل لأنه صار عبئًا على الحياة!
ما نشهده اليوم ليس دوريًا، بل جنازة تمشي على قدم واحدة.
ولا عجب أن تنسحب أندية مثل توتي وكوبر وود نوباوي والزومة، فهذه ليست “هزيمة فنية”، بل صرخة استغاثة في وجه اتحاد يعيش حالة إنكار، ولجنة مسابقات تُدير الشأن الكروي وكأنها تشاهد الدوري الإنجليزي وتقرأ لائحة البرازيل!
الدوري “الممتاز” السوداني تحوّل إلى كوميديا سوداء. تخيّل أن المسابقة التي يُفترض أن تمثل قمة كرة القدم في البلاد، لم يتبقّ فيها سوى أربعة أندية!
كيف نُقيم دوريًا بأربعة فرق؟
هل نُطلق عليه دوري “الفصل المدرسي”؟
أم “دوري الكتشينة”، حيث يلعب الجميع ضد الجميع حتى تتعب الأوراق؟
الاتحاد السوداني… رُبّان مركب غارق
بدلًا من إعلان توقف المسابقة وإعادة تقييم الوضع الكارثي، اختار الاتحاد أن يستمر في عرض المأساة، مصرًّا على خوض آخر جولات الفشل حتى النهاية.
بل والأدهى من ذلك، حين اعتذر اتحادا كسلا والقضارف عن استضافة ما تبقى من دوري “النخبة”، لم يُفهم من هذا الاعتذار إلا أنه إنذار صارخ بأن المسرحية باتت مكشوفة، وأن الولايات نفسها تتبرأ من هذه المهزلة.
فماذا فعل الاتحاد؟
هل راجع نفسه؟
هل قرأ المؤشرات؟
هل توقف لحظة لطرح السؤال الحاسم: “لماذا يعتذر الجميع؟”
كلا. بل اتجه شرقًا… لا إلى ولاية، بل إلى دولة أخرى، إلى العاصمة الإريترية أسمرا!
نعم، اتحاد الكرة في السودان قرر أن ينقل الدوري المحلي إلى خارج السودان!
وكأننا أمام بطولة منفية، تُلعب بعيدًا عن جمهورها، وتُدار بلا قاعدة، وتُموّل من هواء التمني!
فمن يا تُرى سيتحمّل نفقات هذا الترحال الغريب؟
ومن يُموّل إقامة مباريات دوري محلي في أرض أجنبية؟
وهل أصبحت ملاعب السودان جميعها لا تصلح حتى لتمثيل هذا “التمثيل الكاذب”؟
أم أن الاتحاد يظن أن مجرد استمرار الدوري – حتى ولو في المنفى – هو نصر يُدوَّن في دفاتر التاريخ؟
هذا ليس دوريًا، بل نشاط سياحي تحت لافتة كروية.
وكل صباح يقرّر فيه الاتحاد المضي قدمًا في هذه المهزلة، هو بمثابة توقيع جديد على شهادة وفاة المسابقة، بل والمنظومة الكروية كلها.
قراءة نقدية… سقوط المؤسسة لا المسابقة فقط
ما يحدث ليس فشلًا إداريًا عابرًا، بل انهيار شامل لمنظومة يُفترض فيها الأمانة والرؤية.
من يعتقد أن استمرار الدوري في صورته هذه دليل على القوة، عليه أن يُراجع مفهومه للقوة.
فالقوة ليست في رفع جثة متحلّلة، بل في امتلاك الشجاعة لإيقاف النزيف وفتح غرفة الإنعاش.
الاتحاد السوداني لا يُدير دوريًا، بل يُراكم الفضائح.
يخشى الاعتراف بالخلل، ويتعامل مع المسابقة كأنها “مهمة رسمية” لا بد من إنجازها على الورق، حتى ولو لم تكتمل على الأرض.
هذه منظومة تدير كرة القدم بـ”الجرجرة”، وتوزع القرارات حسب درجة القرب، لا استنادًا إلى مصلحة اللعبة.
من غياب الرعاة، إلى هروب الأندية، إلى تجاهل الإنذارات، وصولًا إلى تصدير الدوري إلى أسمرا…
نحن أمام ملهاة سوداء تُنهي آخر ما تبقى من الهيبة الكروية السودانية.
قبل الختام.. من الدوري إلى المنفى
لقد تحوّل الدوري السوداني من منصة للتنافس إلى مسرح عبثي، ومن مرآة تعكس تطوّر الأندية إلى مرآة تكشف هشاشة الاتحاد.
وباتت البطولة مثل جسد مريض، كل يوم تُبتر منه ساق أو يد… حتى لم يتبقَّ إلا رأس يتنفس بصعوبة، ويتحدث عن “النخبة” و”الاحتراف”، في الوقت الذي تُقام فيه المباراة النهائية في أرض لا تتحدث حتى لغة الجمهور!
وأهلك العرب قالوا: “وإذا استوت للنفس أسباب الردى… فأعِنْ هواها، إنها لا تخطئُ.”
وهواهم في الاتحاد قد استوى تمامًا مع أسباب الفشل، فمضوا خلفه بلا بصيرة، حتى صار الدوري الممتاز… دوري “المنفى الكروي”.
والله المستعان
