
أبوبكر الطيب
حين يُصبح الحوار وسيلة بناء لا ميدان خصومة
في زمن المواقف المرتبكة والقراءات العَجْلى، أصبح من المعتاد – وللأسف – أن ينصرف بعض الناس عن مناقشة الفكرة إلى محاكمة صاحبها. تُطرح المقالات لا ليُناقَش مضمونها، بل ليُنبش في نوايا كاتبها وتُجرّح شخصيته، وكأن الفكر لا يُوزن بمضمونه، بل ببطاقة هوية حامله.
وهذا – ولا ريب – انحراف خطير عن جادة الحوار الرشيد، وعودة مقيتة إلى منهج “لا يعجبني فلان، إذن لا يصح قوله”، وهي آفة فكرية تُعيق كل مسعى إصلاحي، وتطمس كل محاولة نقدية جادة، لا لضعفها، بل لكونها خرجت من قلم لا يروق للبعض.
حين يضعف الفكر، يحتدم الشخص
إن اللجوء إلى مهاجمة الكاتب عوضًا عن مناقشة فكرته، دليل على خواء الحجة، لا قوة الغيرة. فالنقاش الموضوعي لا يعرف الأسماء، بل يتعامل مع المعاني؛ ولا يُقاس بالانفعال، بل بالاتزان والمنطق.
أما حين يُستبدل السؤال المنطقي: “ماذا يقول؟” بالسؤال المُغرض: “من الذي قال؟” فإننا نكون قد هدمنا أساس كل تفكير نقدي، وأغلقنا أبواب الحوار.
النقد البنّاء لا يقوم على “الذات”، بل على “الفكر”
المقال فكرة، والفكرة بناء ذهني يقوم على مقدمات واستنتاجات. فإذا أردت هدمه، فاجتهد في مناقشة أدلته، لا في تشويه صورته. ناقش منطقه، لا سيرته. قارن بين الواقع والطروحات، لا بين الكاتب ومخالفك في الرأي.
فما الفائدة من تفنيد دوافع الكاتب، إن كنت قد تركت مقالته بلا حجة ولا نقض؟
وما المعنى من أن تتهمه بأنه “لم يفعل”، بينما الذين “فعلوا” لم يمنعوا الاتحاد العام من قراراته الجائرة، ولم يوقفوا مهزلة المسابقات الشكلية التي تُقام تحت ظل فراغ إداري ووطني قاتل؟
حين يُهاجم القلم… تموت الفكرة
إن تحويل النقاش إلى ميدان شخصي يُثبّط العزائم، ويصنع مناخًا طاردًا لكل صاحب رأي.
الكاتب الذي يُستهدف في ذاته سيتردد في الكتابة مجددًا، والمفكر الذي يُهاجم في شخصه سيتوارى خلف جدران الصمت. وهكذا تُخلى الساحة لمن لا رأي لهم، إلا التصفيق والتطبيل.
فهل هذه هي البيئة التي نريدها لنقاشاتنا الرياضية، الثقافية، السياسية؟
بيئة عنوانها: “لا تكتب حتى ترضى عنك الجماعة”؟
أين الحرية الفكرية؟
وأين دور الكلمة في صناعة التغيير، إن كنا سنخرس الأقلام قبل أن نقرأها؟
دعوة لتصحيح المسار
دعونا نرتقِ بمستوى الحوار، ونضع ضوءًا على طريق العقل والمنطق:
• الفكرة تُناقَش، لا صاحبها.
• النقد يُبنى على الحجة، لا على النية.
• الاختلاف يُدار بالاحترام، لا بالخصومة.
ليس المطلوب أن نتفق، بل أن نتحاور.
ليس المهم أن نُعجب بالكاتب، بل أن نحاكم الفكرة التي كتبها.
فإن كانت صائبة فخذوها، وإن كانت سقيمة فنقّحوها، لكن لا ترموا الكاتب لمجرد أنه قال ما لا يعجبكم.
وقبل الختام…
لكل من يتصدى لمقال بالنقد، أو يقف موقف الدفاع عن مؤسسة أو جماعة، نقول:
اجعل ردك حجة لا مسبة، وبرهانًا لا هجومًا.
فإنك إن انتصرت للفكرة، نُصرت، وإن انشغلت بصاحبها، انكشفت.
وأهلك العرب قالوا:
“إذا نطَقَ السفيهُ فلا تُجِبهُ
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن كلمتَه فرّجتَ عنهُ
وإن تركتَه كمدًا يموتُ.”
فلنكن ممن يُضيئون الفكر، لا ممن يُشعلون نيران الخصومة.
والله المستعان
- Beta
Beta feature
