نص الواقع وواقع الاجتهاد

أبو بكر الطيب
الستون يومًا بين النص والواقع: قراءة في فقه الحوكمة الرياضية وغياب الاجتهاد القانوني
مقدمة:
قراءة قانونية في حال نادي المريخ،
حيث تتكرر دورات لجان التسيير وتتبدل الوجوه أو تعاد دون أن يتحرك قطار الإصلاح،
تبدو أزمة المدة الزمنية المحددة بستين يومًا وكأنها مربط الفرس،
إذ تحوّلت من نصٍّ تنظيميٍّ وُضع لحماية التداول الإداري،
إلى قيدٍ خانقٍ يعطل الاستقرار ويغذّي الفوضى.
وهنا يطل السؤال الذي غفل عنه الكثير من القانونيين:
هل الغاية من النص هي حفظ الشكل أم صون الكيان؟
وهل يجوز تفسير القانون بطريقة تُميت الغرض الذي وُضع من أجله؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة هي التي تحدد ما إذا كنا نُطبّق القانون… أم نُعلّقه على جدار العجز.
أولاً:
أصل فكرة “الستين يومًا” وغايتها التشريعية
النظام الأساسي لنادي المريخ — شأنه شأن معظم الأندية السودانية — نص على أن لجان التسيير تُعيَّن لمدة لا تتجاوز ستين يومًا، وهي مادة منقولة بروحها من النظام الأساسي للاتحاد السوداني لكرة القدم، والمستمدة بدورها من لوائح الفيفا التي تحثّ على “المسار الانتقالي القصير”.
الغاية كانت نبيلة في أصلها:
أن تمنع تحوّل اللجان المؤقتة إلى إدارات دائمة،
وأن تُبقي الباب مفتوحًا أمام الانتخاب الديمقراطي كوسيلة للشرعية.
لكن النص، وإن بدا واضحًا، لا يعمل في الفراغ؛
فهو وُضع في زمنٍ طبيعيٍّ تتوفر فيه مؤسسات الدولة، ومناخ يسمح بانعقاد الجمعيات العمومية.
أما وقد تبدّل الزمان والظرف، فإن تطبيق النص ذاته أصبح يؤدي إلى نقيض غايته.
فما كان يراد به حفظ الشرعية،
أصبح سببًا في تجميدها.
وما صيغ لضبط الإيقاع،
تحول إلى لحن متكرر للشلل الإداري.
ثانيًا:
حين يغيب الاجتهاد، يفقد النص روحه
القانون — في فلسفته العليا — ليس مجموعة أوامر جامدة، بل كائن حي يعيش ويتنفس مع الواقع.
والمشرّع حين كتب “ستين يومًا”، لم يكن يتخيل أن الظروف العامة قد تمنع انعقاد جمعية عمومية لعامٍ كامل أو أكثر.
هنا يأتي دور ما يسمى في فقه القانون بـ “الاجتهاد التفسيري”،
وهو سلطة منحها القانونيون لأنفسهم لتأويل النصوص بما يحقق المصلحة العامة دون خرقها.
لكن ما نراه في واقع المريخ هو غياب كامل لهذا الاجتهاد؛
فقد اكتفى القانونيون بترديد النص كما هو،
حتى باتوا حراسًا للحرف لا رعاةً للمقصد.
وهنا المفارقة:
أن النظام الأساسي لم يقصّر في نصوصه،
بل الذين تفسروه قصّروا في فهمه.
ثالثًا:
بين الالتزام والانغلاق — كيف نُقنّن دون أن نكسر؟
ليس المطلوب أن نتجاوز النص أو نلغيه،
بل أن نقنّنه من جديد بطريقة تتيح تطبيقه في كل ظرف.
والمدخل إلى ذلك هو تفعيل مبدأ “القوة القاهرة” — المعترف به في كل التشريعات
الذي يقرّ بأن:
“الظروف الاستثنائية تُعلّق المدد القانونية، وتجيز التمديد المسبب.”
وهكذا يمكن للجنة الحوكمة أن تُصدر قرارًا قانونيًا مسببًا،
يقول مثلًا:
“نظرًا لتعذر انعقاد الجمعية العمومية في ظل الظروف الوطنية الراهنة، تُمدد فترة لجنة التسيير لمدة عام واحد، استنادًا إلى مبدأ القوة القاهرة، حفاظًا على استمرارية المرفق الرياضي.”
بهذا القرار نكون أمام حالة اجتهاد مقنَّن، لا تجاوز للنظام الأساسي.
فنحن لم نكسر النص، بل استخدمناه بحكمته المرنة.
رابعًا:
المصلحة العامة غاية القانون
من مبادئ القانون الإداري الراسخة أن:
“كل قاعدة قانونية يجب أن تُفسّر في ضوء الغاية التي وُضعت من أجلها.”
وغاية النص في حالتنا هي الاستقرار الإداري.
فإذا كان تطبيقه بحرفيته يؤدي إلى عدم الاستقرار،
فإن الواجب العقلي والقانوني أن نُعيد تفسيره بما يحقق غرضه الأصلي.
وهذا ليس خرقًا، بل اجتهاد في خدمة النص لا ضده.
إذ لا معنى لاحترام الشكل إذا أدى إلى موت المضمون.
ولا جدوى من حفظ النص إذا ضاعت بسببه المؤسسات.
خامسًا:
التعديل المقترح — نحو “تمديد مقنَّن”
حتى لا تتكرر الأزمة، يمكن للنادي أن يُدرج تعديلًا في نظامه الأساسي ينص على الآتي:
“يجوز للجنة الحوكمة أو الجهة المختصة، في حال قيام ظروف استثنائية تحول دون انعقاد الجمعية العمومية، أن تصدر قرارًا مسببًا بتمديد فترة لجنة التسيير لمدة محددة، لا تتجاوز عامًا واحدًا، ضمانًا لاستمرارية النشاط واستقرار الإدارة.”
هذا النص يُحقق التوازن بين:
• احترام القانون من حيث الشكل،
• والاستجابة للواقع من حيث المضمون.
فيبقى القانون سيد الموقف، لكن بعقلٍ راشدٍ لا بجمودٍ أعمى.
سادسًا:
وقبل الختام :-
دعوة للاجتهاد قبل الانهيار
إن قضية “الستين يومًا” في نادي المريخ ليست مسألة زمنية فحسب،
بل هي امتحان لعقل المؤسسة القانونية في السودان الرياضي.
فإما أن نقرأ النصوص بعين الوعي والمصلحة العامة،
أو نبقى أسرى للحرف حتى نغرق في دوامةٍ لا تنتهي من اللجان والفراغات.
ولذلك فإن المطلوب اليوم ليس تعديل القوانين فقط،
بل إحياء روح الاجتهاد القانوني في قراءة الواقع.
فالرياضة قبل أن تكون منافسة في الميدان،
هي فن إدارة للزمن والظرف،
وحين يعجز المشرّع عن مواكبة الواقع،
يتحوّل النص إلى عبءٍ على من صاغه.
وأهلك العرب قالوا :-
عَرَفْتُ الشرَّ لا للشَّر لكنْ لتوقِّيهِ ومن لم يعرفِ الشَّرَّ من النَّاس يَقَعْ فيهِ.
والله المستعان
