وسط الرياح

الحصّة وطن… يُصفّق المطبلاتية للفراغ

عدد الزيارات: 30
474

أبو بكر الطيب

في كثير من ملاعب العالم، عندما تصرخ مدينة تحت النار، تهتز المدرجات بالإنسانية.

في باريس، رفرفت لافتات “الحرية والسلام” فوق رؤوس الجماهير، وفي إسطنبول أضاءت جماهير غلطة سراي المدرجات بألوان التضامن مع أطفال غزة والفاشر.

وفي أوروبا، لاعب ألماني واحد تبرّع بمئتي ألف وجبة غذائية لأطفال دارفور، ليقول بصمته ما لم يقله مئات المتحدثين في بلادي.

إنها الرسالة الصامتة للرياضة الحقيقية: أن تكون جزءًا من ضمير العالم، لا مجرد وسيلة للترفيه.

هناك، الملاعب تتحوّل إلى منابر للمواقف النبيلة؛ لافتات، أضواء، شعارات، لحظات صمت، أعلام ترفرف فوق كل وجع إنساني.

بينما عندنا، يختزلون الوطن في لجنة، والمبدأ في شخص، والنجاح في “بوست” تافه تُزيّنه قلوب ولايكات.

عاد الدوري التأهيلي بالخرطوم بعد ثلاث سنوات من الصمت، وكان يفترض أن تكون العودة رمزًا للتماسك الوطني، لكن المنظر بدا كاحتفالٍ بالسلطة لا بالوطن.

امتلأت المنصات بالتصفيق، وكأن “لجنة التطبيع” أوقفت الحرب وحدها، أو رمّمت الملاعب بمالها الخاص!

ضاعت المعاني في زحمة الشعارات، وغابت اللافتة التي تقول “نحن مع أهل الفاشر” أو “الرياضة من أجل الوطن”.

يا سادتي، لم يكن المطلوب أكثر من وقفة رمزية، راية صغيرة، أو شارة على يد لاعب تقول إن الخرطوم والفاشر من وطنٍ واحد ووجعٍ واحد، لكننا قوم نحسن التصفيق ولا نجيد الصدق.

عندنا من يتبرع بالكلمات كما يتبرع الآخرون بالدماء، ومن يخلط بين المجاملة والانتماء حتى يضيع المعنى في دوامة التطبيل.

وأما المطبلاتية، فهم قصة أخرى من مآسي هذا البلد، جوقة تملأ الفضاء ضجيجًا وتعيش على فتات الأسماء الكبيرة.

كلما كتب أحدهم جملة جوفاء، تدافعت الهاشتاقات واللايكات، كأنها وثائق ولاءٍ للباطل.
يصفقون لكل من يملك سلطة أو وجاهة، ويهاجمون من يقول الحقيقة لأن الحقيقة تجرحهم.
يتحدثون عن الرياضة وهم لا يفرّقون بين “اللعب النظيف” و”العبث القذر”، يكتبون دون إملاء، ويتحدثون دون فكر، ويظنون أن الواجهة الإلكترونية تصنع من الجهلاء كتّابًا!

إنهم لا يدافعون عن قيم، وإنما عن كراسٍ وهمية صنعوها في عقولهم الفارغة.
يا هؤلاء،
الإعلام رسالة لا تملّق، والكلمة مسؤولية لا وسيلة مجاملة.
أنتم من جعلتم المنصات ميادين للسخرية، وأنزلتم الخطاب الرياضي من مستوى التنوير إلى مستوى حفلات القونات والمجاملات والتطبيل.

كل “لايك” تافه منكم يسقط قيمة من قيم الصدق، وكل تعليقٍ أجوف يُعمّق هوّة الجهل ويؤخر وعي الناس بمفهوم الرياضة الحقيقية.
ولو كان بينكم من يخاف الله والوطن، لرفع صوته وقال: “كفى… لقد آن أن نعود إلى المبدأ، لا إلى الأشخاص.”

إن الرياضة، يا سادة، ويا من يعتبرونها مباراة، اعلموا أنها امتحان للضمير الجمعي،
هي المدرسة التي يتعلم فيها المجتمع معنى الانضباط، والعدالة، والروح الجماعية.
وحين تفرغ من هذه القيم، تصبح مجرد عرضٍ هزلي، يصفق له العاجزون عن الفهم.

إن الملعب مرآةٌ للأمة، فإن رأيت فيه ضوضاء بلا معنى، فاعلم أن خلف الأسوار عقولًا بلا وعي وقلوبًا بلا بوصلة.

وقبل الختام،
نقولها كما نؤمن بها:
“الحصّة وطن” — شعار لا يرفعه إلا الأحرار الذين يكتبون بضمير، ويشجعون بعقل، ويحبون الوطن بالفعل لا بالهاشتاق.

أما المطبلاتية، فسيبقون ظلًا باهتًا في صفحات التاريخ، تفضحهم اللغة كما تفضحهم المواقف، لأنهم ببساطة اختاروا التصفيق حين كان الواجب أن يصمتوا احترامًا للوطن.

وأهلك العرب قالوا: ما أكثر الضجيج حين يختفي الصوت الصادق، وما أسرع زوال الطبول حين تصحو القلوب.

والله المستعان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
XFacebookYoutubeInstagram
error: محمي ..