حين يسود الجهل
تتشابه الأصوات وتختلط الأدوار، فيتساوى العالم والجاهل، ويتحول الميدان إلى ساحة ضوضاء لا مكان فيها للحكمة أو الفهم.
وحين تُمنح المناصب بالمجاملة، لا بالكفاءة، يصبح الحديث عن التطوير ضرباً من المستحيل لا يسمع له أحد.
ذلك هو حال الوسط الرياضي عندنا اليوم؛ زمنٌ غابت فيه المعايير، وساد فيه الصخب، وتقدم فيه أنصاف المتعلمين إلى الصفوف الأولى، يوزّعون الأحكام ويصدرون القرارات وكأنهم أوتوا علم الأولين والآخرين.
تأمل من حولك
لجانٌ قانونية لا تفرّق بين النظام الأساسي واللائحة التنفيذية،
وإداريون يتحدثون عن الاحتراف وهم لا يفرّقون بين الرخصة والاعتماد،
ومسؤولون يظنون أن قيادة اتحاد أو نادٍ هي وجاهة اجتماعية لا مسؤولية وطنية.
تراهم يتحدثون عن “تطوير الكرة” بعبارات منسوخة، ويظنون أن السفر والاجتماعات والندوات تعني إنجازًا، بينما الواقع لا يتغير إلا إلى الأسوأ.
لقد صارت الرياضة عندنا حقل تجاربٍ للجهلاء، يعبثون فيها كما يشاؤون، بلا رؤية ولا ضابط ولا خجل.
كل من تجرأ على النقد صار خصمًا، وكل من صفّق صار صديقًا.
وهكذا صارت الاتحادات والأندية تدار بالعلاقات لا بالكفاءات، وبالترضيات لا باللوائح، وبالهوى لا بالقانون.
أما الإعلام، فقد التحق بالركب، فصار بعض من فيه يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، لا بميزان المهنية،وإنما بميزان المصلحة.
تحولت المنابر إلى سوقٍ مفتوحة، تُباع فيها الكلمة وتشترى، وأضحى الصوت العالي بديلاً عن الحجة، والمجاملة بديلًا عن المبدأ.
صار المذيع الذي يصرخ أكثر هو الأشهر، والصحفي الذي يجامل أكثر هو الأقرب إلى “المصادر العليا”، وغاب عن المشهد صوت الضمير الرياضي الذي كان يزن الكلمة قبل أن يكتبها.
إن أخطر ما أفرزه هذا الواقع هو أن “الجهل” لم يعد استثناءً، ولكنه أصبح ثقافة سائدة.
ثقافةٌ تقدّس الجهلاء وتمنحهم النجومية، لأنّهم ببساطة يرضون غرور الجمهور، ويتحدثون بلغته السطحية، ويُطربونه بالخصومة لا بالفكر.
فالجمهور — وقد أرهقته الخيبات — لم يعد يفرّق بين الناقد والمهرّج، وبين المحلل والمهووس، ففتح الباب على مصراعيه لكل من يرفع شعار الانتماء، حتى وإن كان فارغ الرأس واللسان.
وحين يتسيد الجهل بهذا الشكل، يصبح القرار الرياضي رهينة المزاج، واللوائح أوراقًا تُخرق كل يوم،
وتتحول الاتحادات إلى ممالك صغيرة يديرها من لا يعرف أبجديات القيادة،
فتضيع الأموال، وتتهاوى السمعة، وتتحول الرياضة إلى مشهد عبثي لا يعرف فيه أحد أين تبدأ الفوضى ولا أين تنتهي.
والمأساة الأكبر أن هذا الجهل لم يكتفِ بالسطح، وإنما تمدّد إلى العمق،
فصار معيار الاختيار هو الولاء، لا العطاء،
وصار النجاح يقاس بعدد الصور والتصريحات لا بعدد الإنجازات.
أما الفشل، فيُغطى بعبارات جاهزة: “نقص التمويل”، “ظروف السفر”، “التدخلات الخارجية”، “ضيق الزمن”…
ولا أحد يسأل: من السبب؟ ولماذا يتكرر الخطأ ذاته في كل موسم وكل بطولة؟
لقد صرنا في زمنٍ يُقصى فيه أصحاب الفكر الحقيقي لأنهم “يثيرون الجدل”،
ويُكرّم فيه من لا يفقهون شيئًا لأنهم “أبناء الولاء”،
حتى أصبح المشهد الرياضي مرآة لما وصل إليه حال المجتمع من اضطرابٍ في المفاهيم وضياعٍ في القيم.
إن الجهل حين يتمكن من القيادة، لا يهدم الرياضة وحدها، ولكنه يهدم منظومة الأخلاق والفكر والذوق.
ولذلك، فإن معركتنا الحقيقية ليست في النتائج، وإنما في تحرير الرياضة من الجهلاء الذين يتصدرونها.
فالجهل لا يبني وطنًا، ولا يصنع مجدًا، ولا يورّث إلا الخيبة.
ولعلنا نقولها بصدقٍ مؤلم:
لقد تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون،
لا لأنّ الجهل صار علمًا، ولكن لأنّ العلم صار مكروهًا في زمنٍ يحبّ الصخب ويخاف الحقيقة.
واهلك العرب قالوا:
إذا تصدّر الجاهلُ القومَ، ضاع الصواب، واستُبدل الرأي بالعُجاب، وساد الناسَ عذاب.
والله المستعان
