الارتزاق بالرياضة.. المرض العميق (1)

أبو بكر الطيب
في مفترق الطرق الذي تقف عنده الرياضة السودانية اليوم، تسقط الأقنعة تباعًا، وتنكشف الملامح الحقيقية لأولئك الذين طالما تسلقوا جدران الكيانات الرياضية بشعارات الانتماء والولاء. تتجلى أمامنا بوضوح صورة الارتزاق البغيض بالكيان – ذاك الداء الذي ظل يعصف بجسد الرياضة السودانية، ويفتك بها من الداخل دون هوادة.
لم يعد الكيان الرياضي، سواء أكان ناديًا أو اتحادًا أو منتخبًا، حاضنًا للانتماء الطوعي والغيرة النبيلة كما ينبغي، بل أصبح – عند بعض المتسلقين – مجرّد سلعة قابلة للمساومة، ومنصة يتوسلون بها النفوذ، أو يعبرون بها إلى موائد المصالح الضيّقة، بعيدًا كلّ البعد عن جوهر الرياضة وقيمها السامية.
وتمامًا كما ظهر تجّار الدين في سوح الوعظ، ظهر أيضًا تجّار الرياضة، أولئك الذين يحتمون بشعارات براقة ويتحدثون بلغة الإصلاح، بينما ينهبون موارد الكيان ويتكسبون من الفوضى. بالأمس، خرج علينا من يدّعي صيانة الاستادات، لا حبًا في الملاعب ولا حرصًا على البنية التحتية، بل تاجرًا بمشاعر الجماهير، باحثًا عن حصة من “التورتة”، مستثمرًا في فوضى لا يُريد لها أن تنتهي.
وعلى الضفة الأخرى، يقف طابور كامل من المرتزقة الذين يقتاتون من جيوب “دخلاء الوسط الرياضي”، أصحاب الجيوب المنتفخة، الذين لا علاقة لهم بالرياضة إلا بقدر ما تمنحه لهم من سلطة أو وجاهة. يُنفقون بسخاء على حملات التشهير، وشراء الولاءات، وتمويل المطبلين، بينما تئنّ الفرق واللاعبون تحت وطأة الإهمال والضياع.
كم من “زعماء” وُلدوا في الظل، وتضخموا في غفلة، ما إن أفلَتْ عنهم الأضواء أو زاغ المنصب عن أيديهم، حتى انقلبوا مدّعين الدفاع عن الكيان، وكأنهم أوصياء عليه! أولئك الذين باعوه حين كان في عهدتهم، وأهدروا اسمه في مزادات التسويات الرخيصة، يعودون في كلّ موسم تحت شعار الإنقاذ، لا حبًا في الكيان، بل طمعًا في العودة إلى حظيرة الامتيازات.
هكذا يُستدعى الكيان عند الحاجة، ويُطوى كشعار مستهلك حين تُقضى الحاجة. وهكذا تُستباح رمزيته في سوق الولاءات، ليغدو مجرد بطاقة دخول إلى عالم المصالح، لا مظلة تحفظ شرف اللعبة وتُعلي من شأن التنافس النظيف.
هذا النهج الانتهازي في التعامل مع الكيانات ليس مجرد انحراف سلوكي، بل هو خطر بنيوي يعصف بالبيئة الرياضية بأكملها. يُفرغها من مضمونها، ويقتل فيها روح المبادرة والانتماء الحقيقي، ويحوّلها إلى مسرح عبثٍ تهيمن عليه المصلحة الشخصية، بدلًا من أن تكون فضاءً للنهوض والتطوير.
نعم، الانتماء للكيان قيمة عظيمة… لكنه يفقد معناه حين يتحول إلى أداة ارتزاق، ومصدر نفوذ زائف، وساترٍ يُخفي خلفه الفشل والفساد. الرياضة التي لا تُبنى على النزاهة والعدالة لا تصنع نهوضًا، ولا تُخرّج أبطالًا، بل تظل تدور في حلقة مفرغة من الفوضى والخيبات.
ما نحتاجه اليوم هو قطيعة تامة مع هذه العقلية الطفيلية، وقوى جديدة تُؤمن بأن الكيان وسيلة لبناء الرياضة، لا وسيلة لبناء النفوذ الشخصي. نخبة ترى في الأندية والاتحادات والمنتخبات جسورًا للعمل الجماعي والتنافس الشريف، لا منصّاتٍ للسطو والتمكين.
إننا نُخاطب بهذه الكلمات كلّ من تبقى له نبض رياضي حقيقي: أفيقوا! فالكيان لا يُدافع عنه بالصور والشعارات والمناسبات، بل يُصان بالفعل اليومي، بالشفافية، بالعدالة، وبالابتعاد عن كلّ من جعلوا منه بقرة حلوبًا لمطامعهم.
إن لم تُحمَ الكيانات من تجّار الرياضة، وإن لم يُغلق باب الارتزاق باسمها، فإن مشروع النهضة الرياضية سيظل وهمًا، وستظل الرياضة السودانية تدفع الثمن من كرامتها، ومن أحلام أجيالها.
وأهلك العرب قالوا:
إذا فسد الملحُ، فمن يُملّحه؟
وإن فسدت الرياضة، فمن يُطهّرها من تجّارها؟
والله المستعان
