رياضتنا السودانية… ونوق السُّدى التي تاهت في صحراء النسيان (1-3)

أبو بكر الطيب
في صحراء مترامية الأطراف، حيث لا ظلّ ولا ماء، يترك عرب البادية نوقهم العاجزة عن الحمل والولادة واللبن، تهيم في الفيافي حتى يدركها الفناء. تُسمَّى هناك “الناقة السُّدى”… لا نفع منها، ولا أمل فيها. مشهد قاسٍ، لكنه صادق في منطقه البسيط: ما لا يُنتج، لا يُريده أحد.
وهكذا – ويا للمرارة – أصبحت رياضتنا السودانية، كياناتها، رموزها، ومواهبها، نوقًا سُدى تتخبط في صحراء الإهمال والفساد والارتزاق، بعدما عجزت عن الإنتاج، لا لقصورٍ فيها، بل لأن القائمين على أمرها قرروا أن يقطعوا عنها الماء والكلأ، ثم رموها في الفلاة!
كيانات رياضية عريقة… عقيمة عن العطاء
أندية كانت يومًا قلاعًا تهدر بها الجماهير، أصبحت اليوم بيوتًا مهجورة، يملؤها صدى الخلافات وتنهشها الديون، عاجزة عن ولادة نجم أو صناعة فرحة. اتحادات يُفترض أن تقود، صارت تُقاد، وتحكمها الولاءات والشلليات، لا الرؤية ولا الحوكمة.
نجوم الأمس… نوقٌ جف ضرعها
كم من لاعبٍ قدّم روحه وركضه ودموعه في الميدان، فإذا به اليوم يُرمى كما تُرمى “الناقة التي عجزت”، لا تكريم، لا تقدير، ولا حتى كلمة وفاء. بل الأعجب أن البعض يُحاكمهم بتراجع مستواهم، وكأن الزمن لا يدور!
القامات تُقصى بوثاقٍ هش… لا يحفظها ولا يحترمها
كم من مدرب، إداري، فني، ترك بصمة لا تُمحى، لكنه انسحب بهدوء، بعد أن ضاق به المكان، أو ضُيّق عليه من أصحاب الأجندات الضيقة. لا لأن كفاءته انتهت، بل لأن “الحظوة” أصبحت لمن يملك الصوت العالي، أو الجيب المنتفخ.
الهيام في الصحراء… لا راعٍ ولا هادٍ
طاقات شبابية تتخبط بلا توجيه، ومواهب تموت في المهد، وخبرات تذوي كالشمس الغاربة. الجميع في صحراء… لا ظلّ يُؤويهم، ولا من يسأل عنهم، وكأن الرياضة أصبحت مملكة لا مكان فيها إلا للحلاقيم العالية، والألسنة الحادة، والجيوب السخية.
وحين تنظر إلى واجهة المشهد، تصفعك صورة “الأبواق”
أصواتٌ نصّبت نفسها أوصياء على الرياضة، تتحدث باسمها، وتدّعي حمايتها. منابرهم مليئة بالخُطب الرنانة، والادعاءات الكبيرة، لكنهم أنفسهم – إن قلبت صفحاتهم – وجدت فضائحهم على “قفا من يشيل”. باعوا الرياضة قطعةً قطعةً في سوق المصالح، ثم عادوا ليتحدثوا عن الشرف والنزاهة وكأنهم لم يذوقوا طعم الخيانة.
نحن في زمنٍ… تُمنح فيه الميكروفونات للارتزاقيين، وتُقطع فيه الأوتار عن الأصوات الصادقة.
فهل نلوم النوق السُّدى؟ أم نلوم من قطع وثاقها، ورماها في الصحراء؟
النداء الأخير قبل التيه التام:
إذا أردنا أن نوقف هذا الهدر المهين، فعلينا أن:
نُكرّم رموزنا ونصنع لهم دورًا جديدًا يليق بما قدّموا، بدل أن نلفظهم كما يُلفظ الضعف.
نرعى المواهب بحق، لا عبر شعارات المناسبات، بل بخطط مستدامة ومنصات تطوير.
نُقصي الثرثارين ونعيد الميكروفون للعقلاء.
نُفعّل الحوكمة، ونكفّ عن إدارة الشأن الرياضي بـ”المزاج” و”الشللية”.
نمنح الكيانات الرياضية القدرة على “الولادة” من جديد، لا أن نتركها في غرف الإنعاش حتى يتوقف النبض.
الدرُّ الثمين الذي نُضيّعه:
هو احترام الإرث الرياضي، وتقدير من أسّس، ورعاية من يملك الموهبة، لا طرد من لا يجلب منفعةً مؤقتة.
وإلا… فسنستمر في وداع نوقنا واحدةً تلو الأخرى، في مشهدٍ فادح الخسارة، لا فرق فيه بين قامةٍ رياضية أو نادٍ عريق أو موهبةٍ واعدة. الجميع سيُترك سُدى… حين يعجز عن إرضاء سادة المرحلة.
وأهلك العرب قالوا:
“من أضاع الأصل… لا يُرجى منه حفظ الفرع”.
والله المستعان.
