رياضتنا السودانية… ونوق السُّدى (2)
أبو بكر الطيب
في الجزء الأول، أسقطنا صورة “الناقة السُدى” على كياناتنا الرياضية المنهكة، وعلى رموزنا الذين تُركوا يتيهون في صحراء النسيان. لكن الصورة لم تكتمل بعد، فما زال في المشهد أبواق تصيح، وحلاقيم تنتفخ، وحماة مزعومون يرفعون رايات رياء لا رايات إصلاح.
الأبواق… أصوات عالية ومحتوى أجوف
ما أكثر المتحدثين باسم الرياضة وما أقل من يتحدثون لأجلها. كلما اشتد الفشل، علت أصوات الأبواق، كأنهم يستمدون قوتهم من الخراب، ويقتاتون على الأزمات. هؤلاء لا يشبهون الناقة السُدى، بل هم أشبه بـ”الذئب المتنكر في جلد الضحية”، يتباكى على الرياضة وهو ينهشها بأسنانه الحادة.
يعتلون المنابر، ويطلّون عبر القنوات، ويغزون الميديا بعبارات منمقة، يقدّمون أنفسهم على أنهم “المدافعون عن الشرف الرياضي”، بينما تاريخهم المهني – إن وُجد – ملوث بصفقات المصالح، والشلليات، والتمكين، والتعيينات الفوقية التي لم تنتج غير العطالة التنظيمية.
هؤلاء لا يملكون مشروعًا، بل يملكون ماكينة ضجيج. لا يتحدثون عن الإصلاح إلا بقدر ما يخدم بقاءهم في المشهد، تمامًا كمن يمسح على ظهر الناقة العجوز بيد ناعمة بينما يعقد في يده الأخرى حبلًا يقودها إلى الهلاك.
من يترزق من الجيوب المنتفخة
ولأن الرياء لا يعيش وحده، فقد نشأ في ظله “الارتزاق الرياضي”… لا بالعلم ولا بالخبرة، بل بالقدرة على الوصول إلى أصحاب “الجيوب المنتفخة”، الدخلاء على الوسط الرياضي الذين يوزّعون النفوذ والمال على من يُحسنون التطبيل.
ما أكثر من يتخذون “الرياضة” مطية للوصول، أو مظلة لستر خيبات أخرى. من يستثمرون في الصورة لا في البنية، في اللافتة لا في المضمون. تجدهم في كل محفل، يدفعون بسخاء، لا لأجل تطوير الرياضة، بل لشراء الولاءات، وتوجيه البوصلة نحو مصالحهم. وهنا، تتحول الرياضة من رسالة سامية إلى بازار نفوذ ومزاد للمواقف.
الناقة تُهمل.. ولكن الذئب يُكرَّم
كم هو مؤلم أن يُهمل صاحب العطاء، ويُكرَّم صاحب الضجيج! أن نرى اللاعب المُخلص، والمدرب الوطني، والإداري الكفء وقد غادروا الحلبة في صمت، بينما يملأ الساحة من لا يملكون إلا الحناجر.
إنها مفارقة تُبكي الحجر: الناقة تُطلق في الصحراء لتفنى، والذئب يُمنح رداء الراعي.
الاستاد الذي صار مسلخًا للكرامة
وما قضية “الاستادات الرياضية” عنا ببعيد! صيانة الاستادات تحوّلت إلى لافتة براقة يرفعها البعض لتسويق أنفسهم كمنقذين، بينما الحقيقة أن كثيرًا من هذه المشاريع مجرد فقاعة إعلامية أو مدخل للارتزاق، حيث تُنفق الملايين وتبقى الملاعب على حالها من السوء… بل أسوأ.
لقد أشرنا بالأمس إلى هذا “المُدّعي” الذي روّج لصيانة الاستادات، بينما الوقائع تشير إلى استثمار “مصلحي” يتستر خلف يافطة التطوير. والاستاد الذي يُفترض أن يكون مسرحًا للإبداع، صار شاهدًا على التدهور، ومسرحًا لصفقات تُدار خلف الكواليس.
النداء الأخير قبل أن تصبح كل النوق سُدى
رياضتنا الآن على مفترق طرق: فإما أن نعيد بناء المفاهيم، ونطرد الأبواق، ونقفل أبواب التكسّب، ونحسن رعاية “نوقنا”، أو نستمر في إطلاقها سُدى حتى لا يتبقى في الميدان إلا من لا يُرجى منه ضرع ولا ظهر.
نحتاج لإصلاح يبدأ من المفهوم وينتهي بالتطبيق: نُكرم من قدّم، ونُحاسب من استغل.
نُصمت الأبواق، ونُنصت لأصحاب الرؤى.
نُخرج الرياضة من قبضة الطفيليين.
ونعيد بناء الكيانات لا لأجل الواجهة، بل لأجل الأداء.
وأهلك العرب قالوا: “لا يقرُبُ العَذبَ من لا يحتمل الصبر على الكدر.”
فمن أراد رياضة عذبة نقية، فليحتمل صبر الإصلاح، لا متعة الرياء.
والله المستعان
