عدالة “كاس” وظلم ذوي القُربى
صمت الاتحاد العام.. ونطقت العدالة من لوزان.
لقد تاهت نزاهة العدالة المحلية، وقد جاء صوتها من بعيد، من مدينة لوزان السويسرية، حيث قبلت محكمة التحكيم الرياضية الدولية (كاس) شكوى نادي حي العرب بورتسودان شكلًا ومضمونًا، ليكسب السوكرتا مبدئيًا معركته القانونية ضد الاتحاد السوداني، ويعود إلى مصاف أندية الممتاز مؤقتًا حتى صدور القرار النهائي.
إنه انتصار مبدئي نعم، لكنه انتصار للمنهج لا للمكان، انتصار للقانون ضد الفوضى، وللإجراءات السليمة ضد “السكوت المتعمد” مع سبق الإصرار والترصد، الذي صار سلاح الاتحاد العام في مواجهة الأندية المظلومة. فعندما يعجز عن المواجهة وإحقاق الحق، يتحول السكوت إلى أداة ظلم.
قال الخبير القانوني ورئيس لجنة الاستئنافات الأسبق الأستاذ عبد العزيز علي سيد أحمد جملةً في غاية الأهمية:
“إن الاتحاد لم يرد على المذكرات التي تقدمت بها الأندية لا بالموافقة ولا بالرفض، ولكن بتجاهلها عمدًا، ثم حذفها من جدول المنافسات.”
وهنا تتجلى المفارقة القانونية الأشد خطورة، لأن الاتحاد لم يساوِ بين الحالات المتشابهة، ولم يفرّق بين الحالات المختلفة. فالأندية التي لم تُبرمج أصلًا — مثل توتي والزومة — لم تُتح لها فرصة المشاركة أو الاعتذار أو الانسحاب، وبالتالي لا يمكن منطقيًا ولا قانونيًا معاملتها كحالة “ود نباوي” الذي وُضع اسمه في الجدول الرسمي واعتُبر لاحقًا منسحبًا. إن السكوت الإداري في هذه الحالة يُنتج فراغًا قانونيًا لا يُبنى عليه قرار بالعقوبة، لأن العقوبة لا تُوقّع إلا على من خالف التزامًا قائمًا، بينما الأندية غير المبرمجة لم يكن أمامها أي التزام فعلي في جدول المنافسات حتى تُتهم بالتخلف أو الانسحاب.
إن تجاهل الاتحاد للمذكرات وعدم إدراج تلك الأندية في الجدول، ثم معاقبتها بالهبوط، يُعتبر خرقًا فاضحًا لمبدأ العدالة الإجرائية الذي يُعدّ أحد أعمدة التقاضي الرياضي الحديث. ففي القانون الإداري والرياضي، السكوت في مقام الواجب يُعدّ امتناعًا غير مشروع، لكنه لا يمنح الجهة الصامتة الحق في معاقبة من خُصم صمته، ولكن على العكس، فإن هذا السكوت يُفقد الاتحاد صفته كجهة محايدة، ويُحوّله من حكمٍ إلى خصمٍ في آنٍ واحد.
بهذا المنطق، تصبح قرارات الهبوط التي طالت توتي والزومة باطلة من أساسها، لأنها استندت إلى إجراءات لم تتم، وإلى مخالفات لم تقع، وإلى مخاطبات لم تُردّ. ومن هنا نفهم لماذا اعتبرت “كاس” أن شكوى حي العرب وجيهة شكلًا ومضمونًا، فجوهر القضية لا يتعلق بنادٍ واحد، وإنما بمنظومةٍ إداريةٍ اختارت الصمت لتُمارس به أقصى درجات العقوبة.
إنها لوائح بلا روح ولجان بلا ضمير.
ليس من العدل أن يُعاقب من لم يُتح له حق الرد، ولا من المنطق أن تهبط أندية الخرطوم الثلاثة (الزومة، توتي، ود نباوي) في ظل حربٍ أغلقت الملاعب وشتّتت اللاعبين والإداريين. إن لجنة المسابقات برئاسة الأستاذ محمد سليمان حلفا تصرفت وكأن البلاد تنعم بالأمن والاستقرار، فجعلت من النصوص الصماء عصًا تضرب بها الأندية، ونسيت أن القانون — أي قانون — لا يُطبَّق في فراغ، وإنما في واقعٍ تحكمه “الظروف القاهرة” التي تُلزم المنصفين بالرحمة قبل الحسم.
كسب حي العرب… خطوة العدالة الأولى
قرار “كاس” بقبول شكوى حي العرب بورتسودان شكلًا ومضمونًا هو انتصار مبدئي للتقاضي العادل، وانعكاس مباشر لفشل الاتحاد العام في احترام الإجراءات القانونية. ففي الوقت الذي تجاهلت فيه لجان الاتحاد مخاطبات الأندية، كانت محكمة لوزان تنصت وتفحص وتُقيم الأدلة باحتراف، وكأن العدالة اختارت أن تهاجر من الاتحاد العام إلى جبال الألب لتتنفس هواءً نقيًا بعد اختناقها في وادي حلفا.
الخرطوم… تُعاقَب لأنها العاصمة
قد يعتقد البعض أن أزمة الأندية الثلاثة أزمة كروية فقط، بينما هي في الواقع عقوبة جماعية لعاصمةٍ تئنّ تحت نيران الحرب. الخرطوم التي أنجبت المواهب والإداريين والمبدعين، تُعامل اليوم كمتهمٍ دائم في نظر بعض من تولوا قيادة الاتحاد، في غفلةٍ من الزمان وأتت بهم الجمعيات المشبوهة والنظم الأساسية “المسمكرة” والمفصلة بالمقاسات الخاصة. لكن الخرطوم، كما يقول أهلها، “تفقد ثائرًا، فتنبت ألف ثائر”، وستظل منبع الرياضة السودانية مهما حاول البعض طمس ملامحها تحت غبار الكراهية والجهل الإداري.
هل أصبح القانون عباءة لكل غاشٍ وماشٍ؟
حين يتحدث “محامٍ” عن لوائحٍ لا يحترمها، ويُصدر قراراتٍ لا تستند إلى ردودٍ أو مخاطبات، فالسؤال المشروع هو: هل أصبح القانون مهنة من لا مهنة له؟
القانون ليس شهادة تُعلَّق على الجدار، وإنما ميزان دقيق بين العدالة والنفوذ، ومن يهينه بالتلاعب أو التفسير الانتقائي، فإنما يُهين نفسه قبل أن يُهين المهنة. لقد آن الأوان أن يُقال بوضوح: ليس كل من درس القانون يفقه العدالة، وليس كل من جلس على الكرسي صار مؤهلاً ليحكم بين الناس.
من لوزان إلى الخرطوم… دروس في العدالة
ما فعلته “كاس” هو تذكير بسيط: أن القانون لا يُسكت بالقوة، وأن الحق لا يُطفأ بالصمت، وأن السكوت الذي مارسه الاتحاد العام ضد أنديته انقلب اليوم عليه ليكون دليل إدانة لا سلاح دفاع. العدالة لا تموت، لكنها تهاجر حين يضيق صدر الوطن بها، ثم تعود أقوى لتقول:
لقد تأخر الحق، لكنه لم يضع.”
وأهلك العرب قالوا:
الحقّ لا يُغلب وإن غُيِّب،
والباطل لا ينتصر وإن صُفِّق له،
ومن جار على القريب، فضحه البعيد.
والله المستعان

