الرقم الغائب

أبو بكر الطيب
في كل منظومة تبحث عن الإصلاح، لا يضيع الخيط إلا حين يُهمل أحدهم الرقم، ويتعامل مع النظام وكأنه أمرٌ شكلي لا أكثر، فحين يغيب الرقم، تغيب الرقابة، وتفتح الأبواب لمن شاء أن يدخل بلا استئذان.
ذلك تمامًا ما حدث عندما طُبعت دفاتر الإيصالات الخاصة بعضوية المريخ دون أرقام تسلسلية، وقد يظن البعض أن الأمر بسيط، خطأ مطبعي أو مجرد سهو إداري، لكنه في واقع الأمر خلل يمس جوهر الحوكمة والشفافية.
ففي نادٍ كنادي المريخ، لا يجوز أن تُدار الأمور بهذه العشوائية التي تفتح الباب أمام الاشتباه قبل أن تفتح باب العضوية نفسها، وهنا تتجه الأنظار إلى الإدارة التنفيذية، بوصفها الجهة المسؤولة عن ضبط هذه التفاصيل.
لكن من الإنصاف القول إن المدير التنفيذي — وهو الفريق طارق المشهود له بالدقة والانضباط — لا يمكن أن يُتَّهم بالتقصير عمدًا، وربما خانته الثقة في من أُسندت إليهم المهمة، أو سارت الإجراءات بسرعة ففاته التدقيق في التفاصيل، ومع ذلك فإن الخطأ في بيئة العمل المؤسسي يُسجَّل على النظام قبل الأشخاص، والواجب أن يُتدارك لا أن يُبرَّر.
فالسؤال الذي يفرض نفسه: لو قُبل العمل بهذه الدفاتر، فمن الذي سيتحمل المسؤولية لو حدث تجاوز أو تلاعب؟ ومن سيكون الضحية: لجنة العضوية؟ أم المجلس؟ أم المدير التنفيذي نفسه؟
ما حدث ليس جريمة، ولكنه إشارة تحذير، فالإهمال الإداري إن لم يُحاسَب في بدايته، يتحول إلى عادة، والعادة إلى كارثة، ولذلك نحمد الله أن رئيس لجنة العضوية رفض استلام تلك الدفاتر، لأن رفضه هذا أنقذ النادي من أزمة توثيق كانت ستفتح أبواب الشكوك والتأويلات التي لا تُغلق.
إننا لا نبحث عن مذنب، بقدر ما نبحث عن وعيٍ إداري يُدرك أن الحوكمة تنظيمٌ ودرعٌ لحماية المؤسسة، فالرقم المطبوع على الدفتر ليس رقمًا فقط، بل شاهد عدالة يضمن الشفافية، ويحمي الجميع من سوء الظن أو سوء النية، وحين يغيب الرقم… تحضر الفوضى.
إن غياب التسلسل الرقمي هو فقدان لخاصية فنية، وهو فقدان لتاريخ العملية المالية نفسها، ففي المؤسسات المحترفة كل رقم هو بوابة توثيق، وكل تسلسل هو خيط يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، فإذا انقطع الخيط، انقطعت الثقة، وانفتح الباب أمام تساؤلات لا إجابة لها.
إن استخدام دفاتر بلا أرقام يجعل من المستحيل تتبع الأموال المُحصَّلة أو التحقق من صحتها عند المراجعة، ويجعل أي تقرير مالي لاحق عرضةً للطعن، لأن “المرجع الموثوق” لا وجود له أصلًا، ومن هنا تأتي خطورة الإهمال في التفاصيل الصغيرة، لأنها تتحول لاحقًا إلى ألغامٍ إدارية تنفجر في وجه النادي متى ما اقترب موسم الانتخابات أو المحاسبة.
بين الشفافية والمحاباة
ولأن المريخ لا يعيش في فراغ، فإن هذه الحادثة يجب أن تكون مدخلًا لمراجعة أوسع لطريقة إدارة الملفات المالية، فالقضية لم تكن في رقمٍ سقط من الدفاتر، وإنما في عقلٍ إداري لم يتعلم بعد أن الشفافية لا تتجزأ، فمن يسهّل لنفسه اليوم تجاوز “الإجراءات البسيطة” قد يجد نفسه غدًا غارقًا في “الأخطاء الكبيرة”.
ولذلك، على لجنة التسيير أن تحسم هذا الملف بحزمٍ وهدوءٍ في الوقت ذاته، وأن تُعيد ترتيب البيت من الداخل قبل أن يُفرض عليها الإصلاح من الخارج.
العبرة لا تزال قائمة
هل ننتظر حتى تعصف الرياح بالجميع؟ أم نبدأ من الآن إصلاح المسار قبل أن ينهار الجسر تحت أقدامنا؟
إن إنقاذ المريخ لا يحتاج شعارات، وإنما حوكمة لا تُجامل، وشفافية لا تختبئ خلف ستار، وإدارة تعرف أن الإهمال أحيانًا أشد ضررًا من الفساد نفسه.
فيا من بيدهم القرار…
لا تجعلوا الرقم يغيب مرة أخرى.
وقال العرب قديمًا:
من استصغر الخطأ كبُر عليه البلاء.
كلُّ الحوادثِ مبداها من النظرِ،
ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَررِ،
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها،
فتكُ السهامِ بلا قوسٍ ولا وتـرِ،
والمرءُ ما دام ذا عينٍ يُقَلّبُها،
في أعينِ الغِيد موقوفٌ على خَطرِ،
يَسرُّ مُقلتَهُ ما ضرّ مُهجتَهُ،
لا مرحباً بسرورٍ عادَ بالضررِ.
والله المستعان.
