تحقيقات

عودة المماليك.. وتحوَّل الخادم إلى سيّد

عدد الزيارات: 23
474

أبو بكر الطيب

مازال الوطن يلهث جريحاً بين ركام الحرب والخراب، ومع ذلك لا تسمح لنا قسوة المشهد بتجاهل الفساد الذي يتسرّب في كل مفصل من مفاصل الدولة. فالفساد — في أي ساحة وُجِد — جرثومة لا تعترف بحدود الميادين ولا ساحات القتال. وما تفعله هذه الجرثومة من انتهاكات في جسد الوطن، يكرّره اتحاد كرة القدم السوداني في جسد الرياضة: تغوّل، وعبث، وتحوّل الخادم إلى سيّد.
فالتنظيم الذي كان يُفترض أن يكون خادماً للرياضة، وواجهة مشرّفة لبلدٍ يعشق الكرة حتى الصميم، أصبح نسخة معاصرة من حكم المماليك:
بدأوا خدماً للسلطة… ثم صاروا هم السلطة.
تدرّجوا من تنفيذ التعليمات… إلى صناعة القرارات.
ومن احترام القيادة… إلى امتلاك مفاتيحها والتحكم في مصائرها.
والأسوأ من ذلك أنّ الهرم انقلب رأساً على عقب:
فالقاعدة التي كان يفترض أن تحكم — اتحادات الولايات — أصبحت محكومة.
والجسم الذي كان يفترض أن يكون منفذاً — الاتحاد العام — صار هو المخطِّط والمنفِّذ والموجِّه والمتحكم والمحاسِب في آنٍ واحد.
فالمفترض قانوناً ومنطقاً أن الاتحادات المحلية هي التي تصنع الاتحاد العام وتحدد شكله وتركيبته، لأنها القاعدة الصلبة التي تختار من يجلس على كبينة القيادة. لكن الواقع السوداني — كعادته — خاصم المنطق وغازل الفوضى:
أصبح الاتحاد العام هو الذي يصنع الاتحادات المحلية، يختار من يدخل جمعيتها العمومية، ويحدد شكل الأصوات، ويدفع من حر مال اللعبة ثمن الولاءات، والتذاكر، والفنادق، والنثريات.
إنه انقلاب كامل في الوظائف، انقلاب يجعل من “الواحد” سيداً على “الجمع”، ويحوّل الجمعية العمومية من رقابة إلى دمية، ومن سلطة إلى صدى صوت.
وقائع وشواهد… من دفتر مملكة المماليك الكروية
ليس الحديث تنظيراً فالسلوك اليومي للاتحاد يكشف كل شيء.
استحواذ، تدخلات، اختيارات مصنوعة، تحالفات تُبنى بالهدايا وبنثريات السفر، لا بالكفاءة ولا بالمشروعية.
ولعل قضية الخيش — التي ما زالت مفتوحة أمام جهات الاختصاص — واحدة من أخطر الأمثلة؛ كيف تعامل الاتحاد معها؟
بالطريقة ذاتها التي يتعامل بها المماليك مع القضايا التي تهدد سلطانهم:
يُدفنونها تحت ركام الزمن… حتى تموت لوحدها.
يمارسون عليها ما يمكن أن نسميه “الاغتيال البطيء”، في انتظار أن يملّ الناس، أو تنشغل الدولة بحروبها، أو تضيع الملفات كما ضاعت من قبل عشرات الشكاوى.
وأي متابع يعلم أن قائمة الفضائح أطول من أن تُختصر؛ من تجاوزات السفر، إلى تضارب المصالح، إلى هندسة انتخابات الاتحادات، إلى عودة نفس الوجوه رغم فشلها الموثّق.
المشهد كله يقول شيئاً واحداً…
إننا أمام اتحاد خرج من دوره الرياضي إلى دور سياسي-اقتصادي صغير،
أمام جهاز لم يعد يرى نفسه “هيئة خدمية”،
ولكنه“دولة داخل الدولة”.
عاد المماليك لكن بقمصان رياضية، وبتذاكر سفر بدلاً من السيوف، وبصلاحيات مستمدة من فراغ تشريعي صنعوه بأيديهم.

   واهلك العرب قالوا:

نامت نَواطيرُ مصرَ عن ثعالبِها
وقد بَشِمنَ… وما تَفنى العَنَاقيدُ

             والله المستعان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
XFacebookYoutubeInstagram
error: محمي ..