وسط الرياح

السلام قوة أم هبة خذلان

عدد الزيارات: 18

أبو بكر الطيب

تتداخل الأصوات، وتختلط الشعارات، وتعلو النداءات المنمقة التي تُزيّن الخراب باسم “السلام”، فبات من الضروري أن نتوقف، وأن نسأل، وأن نميز بين سلامٍ يُصنع على الحق… وسلامٍ يُفرض على الجرح ليُغطيه لا ليُعالجه.
لقد سمعنا كثيرًا من الأصوات التي تدعو إلى “السلام بأي ثمن”.
ولكن — وبكل وضوح — هذه العبارة هي أول أبواب الهزيمة، وأوسع طرق تمكين المجرمين، وأخطر ما يمكن أن يُقال في وطنٍ غُرق بالدماء، وأُغتصبت مدنه، وتشرّد أهله، وعُذِّب أبناؤه، وتهدمت مؤسساته.
فليس كل سلامٍ سلامًا…
وليس كل توقيعٍ نهاية للحرب…
وليس كل مصافحةٍ بداية جديدة.
هناك سلامٌ يُبنى على القوة، على العدل، على المحاسبة، على موازين الحق.
وهناك سلامٌ آخر… سلامٌ هشّ، ناعم، يلمع في الصور، ولكنه ينكسر عند أول مواجهة مع الحقيقة.
السلام لا أن نُسامح القاتل وإنما نمنعه من تكرار القتل
السلام الحقيقي لا يتجاهل الدماء، ولا يمسح ذاكرة النازحين، ولا يطلب من الضحية أن تصافح جلادها باسم “الوطنية”.
السلام الذي نريده — والذي يستحقه السودانيون — يبدأ من هنا:

  1. معرفة الحقيقة كاملة… بلا رتوش
    من قتل؟
    من خطط؟
    من موّل؟
    من سلّح؟
    من فتح المدن للنهب والاغتصاب؟
    ومن جعل المواطن وقودًا لحرب لم يطلبها؟
    السلام بلا معرفة الحقيقة… دفنٌ للدماء لا إغلاق لدفاتر الجريمة.
  2. محاسبة الجناة محاسبةً حقيقية… لا سياسية
    الذي قتل… يُحاسب.
    الذي شرّد… يُحاسب.
    الذي اغتصب… يُحاسب.
    الذي خان… يُحاسب.
    الذي دمّر مؤسسات الدولة… يُحاسب.
    ولا شيء يُعيد للدولة هيبتها مثل العدالة، ولا شيء يردع تكرار الجريمة مثل القانون.
  3. لا مساواة بين الضحية والجلاد
    لا يجلس القاتل والقتيل على طاولة واحدة.
    لا يُوضع المجرم في مستوى من قاومه دفاعًا عن الوطن.
    لا يُعاد تدوير الذين حملوا السلاح ضد الدولة بحجة أنهم “جزء من السلام”.
    سلامٌ كهذا… جريمة مضافة بغطاء جديد.
    السلام الذي نريده… سلام القوة لا سلام الاستسلام
    نحن لا نريد سلامًا “يُساير” العالم، سلامًا “يصنعه” السودان.
    سلامًا يخرج من رحم القوة لا من الضعف…
    من منطق القدرة لا منطق الاستعطاف…
    من موقف مَن يفرض شروطه لأنه صاحب الحق، وصاحب الأرض، وصاحب الدم.
    سلامٌ يعيد للدولة هيبتها، لا يُقسّمها.
    سلامٌ يعيد للجيش مكانته، لا يساومه.
    سلامٌ يعيد للمواطن الأمن، لا يتركه نهبًا للميليشيات.
    سلامٌ يعيد للأرض حرمتها، وللعدالة سلطانها، وللقانون سيفه.
    السلام ليس توقيعًا… السلام مشروع إعادة بناء العقل السوداني
    السلام الحقيقي يبدأ من المدارس،
    من القضاء،
    من الخدمة المدنية،
    من إعادة تعريف معنى الدولة والمواطنة،
    ومن إحياء التربية قبل التعليم.
    السلام مشروعٌ ثقافي قبل أن يكون سياسيًا،
    ومشروع دولة قبل أن يكون مشروع أشخاص.
    سلامٌ يعيد ترتيب الوعي قبل ترتيب الطاولات.
    ولن يكون هناك سلام حتى نغلق أبواب المحسوبية،
    ونحرق الفكرة التي صنعت الجريمة قبل معالجة نتائجها.
    نعم للسلام… ولكن بشرط أن يكون عدلًا
    نعم للسلام…
    ولكن لا سلام مع القتلة.
    نعم للسلام…
    ولكن لا سلام مع من لم يعترف ولم يندم ولم يخضع للعدالة.
    نعم للسلام…
    ولكن سلام القوة… لا سلام الخذلان.
    فالسلام الذي لا يُعيد للمظلوم حقه… ليس سلامًا سيكون صفقة سياسية ناعمة الملمس قاتلة للمعنى.
    والسلام الذي لا يمنع تكرار الجريمة… هدنة بين فصلين من الفوضى. واهلك العرب قالوا:

إن السلام كالحرب، معركةٌ لها جيوشٌ، وحشودٌ، وخططٌ، وأهدافٌ، والثقةُ بالنفسِ معركةٌ ضد كل مضاعفات الهزيمة.

    والله المستعان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
XFacebookYoutubeInstagram
error: محمي ..