سقوط الضمير الإداري

أبو بكر الطيب
عندما نتأمل المشهد الرياضي السوداني الراهن، لا نحتاج إلى كثير عناء لندرك أن أزمتنا أزمة ضمير إداري سقط بعد أن تُرك بلا حارس، وبلا قيم تحفظ توازن اللعبة وتحمي مؤسساتها من العبث.
لقد صنع الصانعون أكاديميات حديثة، واهتموا باللياقة والمهارة، ورفع مستوى التكتيك والمعرفة بالقانون… لكن لم يصنع أحد الضمير الرياضي، ولم تُنشئ أي مؤسسة برنامجًا حقيقيًا يحمي الروح الرياضية أو يُربي الإداري قبل اللاعب.
ولهذا تنشأ الأجساد، وتتطور المهارات، لكن يسقط الوعي الأخلاقي سقوطًا مدويًا.
أخطر أنواع الجهل… الجهل الأخلاقي الرياضي
المأساة الحقيقية تتمثل في جهل القوانين، وفي الجهل الأخلاقي الذي يجعل الإداري يبرّر الخطأ، ويغذي التعصب، ويغض الطرف عن التجاوزات طالما أنها تخدم مصالحه أو مجموعته.
هذا الجهل هو الذي أنشأ:
إداريًا يدير ناديه بمنطق الثأر لا بمنهج المؤسسية.
وجمهورًا يرى الغاية في الفوز ولو عبر الإساءة والشتائم.
وإعلاميًا يضاعف التعصب لأنه يرفع المشاهدات.
ومسؤولًا يعتقد أن السلطة الإدارية تمنحه الحق في تجاوز اللوائح والتنكيل بمكونات اللعبة.
إنه جهل يصنع مهارات بلا قيم، وقرارات بلا بوصلة، ومؤسسات بلا ضمير.
اتحاد بلا ضمير… يهبط بالمشهد كله
وحين تنظر إلى واقع الاتحاد السوداني لكرة القدم، تتضح الصورة أكثر.
القضايا تتوالى، المخالفات تتراكم، والقرارات تُصنع بطريقة لا تشبه الرياضة ولا القانون.
وما حدث مع أندية توتي، الزومة، ودنباوي من الأخطاء التي تصلح لتكون نموذجًا صريحًا لانهيار الضمير الإداري:
ظلم منهجي في القرارات.
وتجاهل اللوائح.
وتدخلات في نتائج المنافسات.
وسياسات إقصاء واضحة لمكونات أصيلة.
أما اتحادات الجنينة وكوستي فتعرضت لانتهاكات تنظيمية تُعد سابقة خطيرة، تُظهر أن التعامل مع المؤسسات الرياضية المحلية بات يتم بمنطق “من معنا فله الامتياز، ومن يخالفنا فله العقاب”.
وهذا الانحراف في مبدأ العدالة ليس صدفة، وإنما نتيجة تراكم طويل لضعف الرقابة وغياب الأخلاق.
اللجان العدلية… من صمام أمان إلى جزء من الخلل
المصيبة الأعظم أن اللجان العدلية — التي يُفترض أن تكون ميزان الحق وضمانة النزاهة — فقدت استقلالها تمامًا.
بدلًا من مراقبة الاتحاد، أصبحت تدين له بالولاء، وتبرّر أفعاله، وتشرعن مخالفاته.
وهكذا يتعطل القانون، وتتحول العدالة إلى ورقة هامشية يتم استخدامها عند الحاجة فقط، بينما يصبح الفعل الإداري منفلتًا بلا رقيب… وبلا ضمير.
والنتيجة الطبيعية أن قضايا السودان تتكدّس في “كاس”، بينما يفقد الشارع الرياضي ثقته في مؤسساته الوطنية.
الجهل الرياضي الجماعي… حين يتحوّل التعصب إلى ثقافة
غياب التربية الأخلاقية أدى إلى ظهور جيل من الجماهير يرى:
• أن الشتم “حمية”.
• والاعتداء “شجاعة”.
• والتلاعب بالقانون “ذكاء”.
• وتشويه الخصوم “انتصارًا”.
وهكذا يتكون ضمير جمعي مشوّه، تتراجع فيه قيم الروح الرياضية لصالح السلوك العدائي الذي يخسر فيه الجميع… حتى المنتصر نفسه.
نريد نهضة تبدأ من الضمير قبل الملاعب
نهضتنا الرياضية لن تبدأ بتعيين مدرب جديد، ولا بترميم ملعب، ولا بزيادة عدد البطولات.
نهضتنا تبدأ عندما نعيد بناء الضمير الرياضي:
ضمير اللاعب، وضبط الإداري، ووعي المشجع، واستقلال اللجان، وتماسك المؤسسات.
وحينها فقط تستقيم الكفة، وتتراجع الفوضى، وتعود الرياضة إلى مكانها الطبيعي: ميدان شريف، لا ساحة صراع.
واهلك العرب قالوا:
صلاحُ العمل من صلاحِ النّية، وصلاحُ النية من نقاءِ السريرة، ومن كانت سريرته نقية — استقام فعله ولو جار الزمان.
وهذا هو جوهر رسالتنا: ألا نتوقف عن إعادة بناء الضمير الذي سقط، حتى يستقيم حال الرياضة كلها.
والله المستعان
