تحقيقات

الجهل الإداري.. الميلاد من الرماد

عدد الزيارات: 11
474

أبو بكر الطيب

متى يصبح تعويض النقص دافعًا لهدم المؤسسات؟
كثيرون يبحثون عن تحليل معقد يفسر السلوكيات المتهورة التي تنسف الهياكل وتفكك المنظومات. لكن الشرارة الأولى غالبًا ما تكون أبسط، وأعمق، وأخطر:
إنها عقدة النقص عندما تتخفى داخل مقعد السلطة.
هذه العقدة تعمل كجرح نفسي وكوقودٍ أعمى قد يبني ثروة، ويصنع نفوذًا، لكنه في السياق الإداري — يهدم مؤسسات ويمحو قيمة المؤسسية ذاتها.
إنه الجهل الإداري في صورته الأكثر بدائية وفتكًا.

(١) الفجوة القاتلة: الذات الحقيقية والصورة المشتراة
تبدأ القصة من القاع…
من من يحمل في داخله مزيجًا من الفقد التعليمي، والهشاشة الاجتماعية، وتجارب الخدمة التراتبية التي اعتادت تلقي الأوامر دون نقاش. هذا الشخص عندما يقفز فجأة إلى قمة المال والسلطة عبر طرق غير تقليدية — لا خبرة، لا معرفة، لا مؤهل أكاديمي
لا يبحث عن الاستقرار، ولكنه يبحث عن محو الماضي بكامله
الثروة بالنسبة له وسيلة، لعملية جراحية للذاكرة.
ولأنه لم يحصل على احترامه عبر مسار طبيعي من الكفاءة، يبدأ في شراء صورته الجديدة بالمال:
• شراء ولاءات
• شراء أصوات
• شراء ابتسامات
• شراء بطولات وهمية
• شراء ضمائر معروضة في مزاد الأسواق والمضاربات المالية
وهنا يتشكل الجهل الإداري:
الجهل بأن القيمة لا تأتي من المال ولكنها تأتي من العمل والمعرفة.

(٢) وهم القوة المطلقة: من التعويض إلى الإخضاع
حين ينجح المال في صناعة هالة من الأتباع والمستفيدين، والتبع والمتردية والنطيحة وما أكل السبع يتضخم الوهم…
فيتحول احتياج الاحترام إلى حاجة للسيطرة. خلاص تكبر في رأسه
لم يعد الأمر رغبة في التقدير، وإنما رغبة في إخضاع الجميع وإشعارهم بأن وجودهم الإداري مرهون بكرمه، وأن الاعتراض خيانة، وأن الموافقة دليل ذكاء ووعي
هنا يتعامل الجاهل مع المؤسسات كأنها “أوراق قابلة للشراء”.
القانون؟ يشتريه.
المناصب؟ يشتريها.
القرارات؟ يُعيد كتابتها حسب مصلحته.
المؤسسات؟ يراها “قابلة للثني” بالمال.
هذا هو أخطر مستويات الجهل الإداري:
الجهل بقدسية المؤسسية.

(٣) الدائرة المفرغة: الخوف يصنع الطغيان
ورغم كل هذا المظهر العنيف، يبقى مصدر السلوك… الخوف.
الخوف من الماضي.
الخوف من التعري.
الخوف من انكشاف الحقيقة: أن الاحترام ليس حقيقيًا، وأن الحب ليس حبًا، وأن الولاء ولاء جيوب لا قلوب.
لذلك، أي نقد بسيط يُستقبل كتهديد وجودي.
أي رأي مخالف يصبح “محاولة انقلاب”.
وكل تذكير بالضعف القديم يولّد ردة فعل هستيرية: إسكات، شراء، تهديد، أو جرائم يتم طمسها بالمال والسلطة.
وحين تتحول جريمة كاملة إلى “خطأ يمكن دفع ديته”، فهذا ليس انتصارًا قانونيًا…
بل تأكيد نفسي بأن المال هو السور الأخير الذي يحميه من السقوط.
وهكذا لا نرى فسادًا إداريًا فقط…
نحن نرى مأساة إنسان يفتك بالمؤسسات لأنه فشل في مصالحة نفسه.

وقبل الختام :-
عندما يصبح الإنسان خطرًا على المؤسسة
الجهل الإداري لا يبدأ من القوانين الجهل الإداري يبدأ من النفس.
من الشخص الذي لم يتعلم أن يحترم ذاته، ولم يحترم القانون فقرر أن يفرض احترامه بالقوة.
ومن المسؤول الذي لم يُربّ داخله قيمة المؤسسة، فتعامل معها كمتجر خاص، لا ككيان عام.
وهكذا تُهدم المؤسسات من داخلها…
لا بالفساد وحده، ولكن بالهشاشة النفسية المتخفية تحت بريق السلطة.

وأهلك العرب قالوا :-
“إذا جهل الإنسان قدر نفسه… جهل قدر غيره.”
وقالوا :
وكمْ من جبانٍ هدّمتْه جهالةٌ
وأقعدَهُ عجزٌ وعقلهُ مُقتدرُ
وقالوا :-
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ
وقالوا :
ما هلكت أمة إلا حين قدّموا الجاهل، وأخّروا العاقل.

والله المستعان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
XFacebookYoutubeInstagram
error: محمي ..