حبٌّ من طرفٍ واحد

أبو بكر الطيب
قراءة في وجع الكرة السودانية قبل الدار البيضاء :
اللغة التي تحدث بها السودانيون هي لغة العشق الخالص، والانتظار الطويل، والإيمان بأن لهذه اللعبة في السودان معنى يتجاوز التسعين دقيقة. لكن السؤال اليوم لم يعد: كيف سنلعب؟ ولا من سنقابل؟ السؤال صار أكثر إيلامًا وصدقًا: لماذا نحب كرة لا تُبادلنا هذا الحب؟
عندما يُسأل أحدنا عمّا ينتظر المنتخب في الدار البيضاء، وتأتي الإجابة مشبعة بالتشاؤم، فذلك ليس تجنّيًا على اللاعبين، ولا كفرًا بالوطن، إنه قراءة واقعية لمن يعرف كيف تُدار الأمور، ومن خبر الطريق قبل أن يُفاجأ بنهايته. فالهزيمة – في كثير من الأحيان – لا تبدأ داخل الملعب، إنها تبدأ في غرف التخطيط، وعلى موائد القرارات المرتجلة .
الكرة السودانية لا تعاني من فقر في الموهبة، ولا من شح في الجمهور، إن معاناتها الحقيقية من أزمة إدارةٍ مزمنة، إدارة تصالحت مع الفشل حتى صار جزءًا من المشهد. إدارة ترى في الاستمرار إنجازًا، وفي النقد خصومة، وفي الكرسي حقًا مكتسبًا لا مسؤولية مؤقتة. لذلك صرنا نُهزم قبل أن نلعب، ونُخفق قبل أن نُخطط، ونبحث عن الأعذار قبل أن نبحث عن الحلول.
الجمهور السوداني، وهذه هي المفارقة الكبرى، جمهور استثنائي في كل شيء. جمهور قد يؤجل التزاماته الأسرية ليحضر مباراة، وقد يتحامل على صحته ليجلس في المدرج، وقد يقتطع من ضروريات حياته ليشتري تذكرة.
ومع هذا الواقع المتردي، تطفو على السطح – بهدوءٍ خادع – بوادر خلاف داخل مطبخ القرار نفسه. خلاف لا يُعلن، ولا يُكتب في البيانات، لكنه يُقرأ في طريقة إدارة الملفات، وفي تضارب الإيقاع، واختلاف الرسائل. العلاقة بين حلفا وأسامة، لمن يملك عين التحليل لا عين المجاملة، لم تعد على ذات النسق القديم. هناك تباين في الرؤى، وصراع مكتوم على الاتجاه، وكلٌّ يرى نفسه الأقدر على الإمساك بالدفة.
عودة أسامة عطا المنان إلى السودان ليست حدثًا عابرًا. هي عودة محمّلة بملفات مؤجلة، وبأسئلة أكثر من الإجابات، وبموازين قوة داخل اتحادٍ لم يحسم يومًا أمره: هل هو مؤسسة تُدار بالعقل الجماعي، أم ساحة تُدار بالتفاهمات المؤقتة؟
وغدًا لناظره قريب، لأن ما يُدار في الخفاء لا بد أن تظهر آثاره في العلن، قرارًا مرتجلاً ، أو صدامًا صامتًا، أو انفجارًا مؤجلًا.
إن الاستمرار بذات العقول، وذات الأساليب، وذات الأسماء، لن يقود إلا إلى ذات النتائج، مهما تغيّرت الشعارات وتبدّلت الواجهات. فالكرة لا تُدار بالنيات الحسنة وحدها، ولا تُصلحها المناصب الدولية إن كانت الأرض التي تقف عليها رخوة. والمشكلة الحقيقية أن الاتحاد السوداني ما زال يُدار بمنطق النجاة المؤقتة، لا بمنطق البناء المستدام.
وحين تختلف مراكز القوة داخل الاتحاد، لا يكون الخلاف – في الغالب – حول كيف نطوّر الكرة،وإنما حول من يُمسك بمفاتيحها. وحين يصبح الكرسي هو الغاية، يتحول المنتخب إلى ورقة ضغط، والبطولات إلى أدوات، والجمهور إلى متفرج على معركة لا تخصه، رغم أنه يدفع ثمنها نفسيًا ومعنويًا.
أخطر ما نواجهه اليوم ليس خسارة مباراة في الدار البيضاء، اخطر ما نواجهه هو انعدام الثقة. ثقة اللاعب في عدالة المنافسة، وثقة المدرب في التخطيط، وثقة الجمهور في أن صوته مسموع. وإذا انهارت هذه الثقة، فلن تُجدي بعدها بيانات، ولا لجان، ولا وعود مؤجلة.
الكرة السودانية لا تحتاج إلى أبطال فرديين، إنها تحتاج إلى مؤسسة تحترم نفسها، تُدار بعقلٍ جماعي، وتُحاسَب بصرامة. تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بأن التجربة فشلت، وأن التغيير لم يعد خيارًا تجميليًا، وإنما يحتاج ضرورة وجودية. فالحب الذي لا يُقابل بالاحترام، يتحول مع الوقت إلى وجع، ثم إلى عزوف.
وأهلك العرب قالوا:
من جرّب المجرّب عقله مخرّب،
ومن أصرّ على الطريق الخطأ، فلا يلومنّ إلا نفسه
ما طار طير وارتفع إلاّ كما طار وقع
والله المستعان
