وسط الرياح

تقدّم النفوذ أمام القانون

عدد الزيارات: 7
ابو بكر 2

أبو بكر الطيب

احترام القانون ليس شعارًا يُرفع عند الخلاف، ولا مادة تُستدعى عند الحاجة، ولكنه هو أساس الدولة الحديثة، وعلامة التمييز الوحيدة بين حكمٍ يُدار بالقواعد، وسلطةٍ تُدار بالأمزجة. وحين نتحدث عن احترام القضاء، فإننا لا نعني تقدير القضاة، ولا الإشادة بأحكامهم في الخطب، وإنما نعني أمرًا واحدًا لا يحتمل التأويل: تنفيذ الأحكام كما صدرت، وفي وقتها، ودون تدخل.

في كل تجارب الدول التي استقرت، لا يُنظر إلى الحكم القضائي على أنه رأي قابل للمراجعة السياسية، ولا قرارًا إداريًا يمكن تجميده مؤقتًا بانتظار “تفاهم”. الحكم، متى أصبح نهائيًا، يخرج من دائرة الجدل، ويدخل دائرة الإلزام. وهنا بالضبط تُقاس جدية الدولة: هل تحمي أحكام قضائها؟ أم تسمح للنفوذ أن يقف بينها وبين التنفيذ؟

السؤال الذي يفرض نفسه بهدوء:
هل يحدث في العالم، بكل تجاربه الدستورية والقانونية، أن تتدخل سلطة أعلى لتوقف تنفيذ حكم قضائي نافذ؟
وإن حدث – وهو نادر واستثنائي – هل يُعد أمرًا طبيعيًا، أم مؤشرًا خطيرًا على اختلال ميزان السلطات؟
حين تستعمل سلطةٌ أعلى نفوذها لتأجيل أو تعطيل تنفيذ حكم قضائي، فإن الأمر لا يكون مجرد “تقدير ظرف”، وإنما هو فعلًا سياسيًا بامتياز، يُعيد ترتيب العلاقة بين القانون والقوة. قد يراه صاحب النفوذ إنجازًا، أو مكسبًا مؤقتًا، لكنه في ميزان الدول خسارة صافية، لأن الرسالة التي تصل إلى المجتمع أبعد أثرًا من الواقعة نفسها:
أن الحكم لا يكفي وحده… وأن التنفيذ يحتاج مباركة.
وهنا نصل إلى منطقة شديدة الحساسية:
مرحلة ما بعد الحكم.
فالخطر الحقيقي لا يكمن في الطعن، ولا في التقاضي، فهذه أدوات مشروعة، ولكن يكمن حين ينتهي كل ذلك، ويُقال للحكم: انتظر.
انتظر ماذا؟
وانتظر من؟
وهل العدالة بطبيعتها تعرف الانتظار؟
ليست المشكلة في شخص، ولا في واقعة بعينها، وإنما في المبدأ.
عندما يصبح تنفيذ الحكم محل نقاش، وتُفتح له قنوات خارج المحكمة، فإننا نؤسس – دون إعلان – لسابقة أخطر من أي نزاع إداري. سابقة تقول إن القضاء يُحترم… ما لم يتقاطع مع رغبة أعلى.
نحن لا نُصدر حكمًا، ولا نوزّع اتهامات، ولا نزعم امتلاك الحقيقة الكاملة. كل ما نفعله هو طرح الأسئلة التي تفرضها الوقائع، وترك الإجابة لفطنة القارئ والمتابع:
هل هذا مسار طبيعي في دولة تحترم القانون؟
وهل يُسعد صاحب النفوذ فعلًا أن يُقال إن حكمًا قضائيًا توقف لأن الهاتف رنّ؟
إن التاريخ علمنا أن النفوذ العابر لا يصنع دولة، وأن أخطر ما يمكن أن يحدث للعدالة ليس أن تُخطئ، ولكن أن تُؤجَّل. فالخطأ يُصحَّح، أما التأجيل فيقتل الثقة، ببطء… وبصمت.

واهلك العرب قالوا:

القانون إن وقفوه اليوم،
بكرة يقيف قدّامهم،
والعدل ما بعرف كبير…
بعرف الحق وبس

والله المستعان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
XFacebookYoutubeInstagram
error: محمي ..